الري
الري

تاريخ افلاج الري


لا شك أن كل من تجول بين مزارع النخيل المنتشرة في ثنايا جبال هجر قد صادف الأقنية الضيقة التي تحمل المياه من البرك المخصصة لجمعها إلى الحقول الصغيرة التي تنبت فيها أشجار النخيل والحمضيات والمانجو، ومزارع الموز والبرسيم. وهذه الأقنية في المزارع القديمة مصنوعة من الطين أو الحجارة، وتتلوى منسابة برشاقة بين الأعشاب التي ترتوي من المياه المتسربة منها. أما في المزارع الحديثة، فقد استعيض عنها بأقنية مبنية من الإسمنت، تشق طريقها باستقامة عبر الحقول. وحيث أن المياه لا ترشح منها، فإن الأعشاب نادرة أو معدومة الوجود حولها. والحقيقة أن الأنظمة القديمة تمثل إغراء أكبر لشخص مثلي يهتم بالتاريخ الطبيعي. ففي تلك البيئة يساعد الري زهوراً رائعة الجمال على الحياة، وكذلك فراشات متنوعة وضفادع، فضلاً عن أسماك الوادي الصغيرة.

وليس هناك أروع من التفرج على الفلاحين وهم يستخدمون نظام الري الذي عمل على النحو التالي: يتم تمرير الماء من موارده الجبلية النائية إلى حوض كبير أو مجموعة برك على حافة المزرعة. ومن هناك تنطلق شبكة من الأقنية السطحية طولاً وعرضاً. وعندما تتفرع قناة ضيقة من قناة واسعة، يتم صنع رتاج، إما من المعدن أو من الحجارة، أو أحياناً من صرَّة من الخرق البالية. ثم يفتح الرتاج ليتدفق الماء نحو مجموعة من الأثلام حتى ترتوي الأشجار المغروسة فيها. وبعدئذ يفتح رتاج آخر لنقل الماء لأثلام أخرى. وبهذه الطريقة يتم توصيل الماء المتوفر لجميع أشجار المزرعة على مدى يوم أو يومين. وفي الليل تمتلئ برك الجمع من جديد لتبدأ العملية من بدايتها في الصباح التالي.

كنت لسنوات طويلة أظن أن تلك الأقنية تدعى أفلاجاً – وهي جمع فلج. لكني علمت مؤخراً أن هذا الاسم هو للجزء المبني تحت الأرض من شبكة الري. أما الأقنية السطحية التي تمكن رؤيتها فوق التراب، فهي تدعى أغيالاً، وواحدها غيل.والكلمة تعني أيضاً الوادي المسكون، والأجمة، ولذا فإنها تطلق على عدد من القرى الصغيرة في الدولة.

نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة

عندما يسقط المطر هنا، فإنه في الغالب يسقط على الجبال، حيث تتسبب العواصف الرعدية بحدوث ارتشاح مائي، حتى في أشهر السيف القائظة. وهناك في أماكن متعددة من جبال حجر جداول تسيل مياهها طيلة أيام السنة، أو حتى برك عميقة يبقى قيها الماء وقتاً طويلاً حتى من سنوات الجفاف. وكانت المياه من هذه الموارد تستخدم منذ قرون كثيرة لري التربة الخصبة عند سفوح السلسلة الجبلية. ومدينة العين هي مثال كامل على كيف تعيش واحة كبرى بفضل موارد مياه الجبال ونظام الري الذي ينقل المياه في شبكة تمتد عشرات الكيلومترات، عابرة الجبال وسهول الحصباء، وصولاً إلى المزارع المقامة قرب السفح حيث التربة الغضارية.
وهذا النظام لأقنية الري معروف في أماكم أخرى في العالم، وحتى في أوروبا (إسبانيا) وآسيا الوسطى. وكان أكثرها تعقيداً في إيران وأفغانستان، حيث تدعى الواحدة منها “قناة” و”كهريز”. وكان يعتقد أن تلك هي الأقدم في العالم، حيث تحدثت عنها كتابات أثرية من عصر الملك الأشوري سرجون الثاني عام 714 ق. م. كما كان يسود الاعتقاد أن فن بناء تلك الأقنية جاء للجزيرة العربية من إيران والعراق. إلا أن دراسة الآثار كشفت مؤخراً أن شبكة الأقنية المنتشرة إلى الجانب الغربي من جبال حجر في الإمارات العربية المتحدة وعمان تسبق نظام “القناة” الإيراني بعدد من القرون. وقد يكون مرجحاً أن المهارات الهندسية اللازمة لبناء هذه المجاري المائية المعقدة انتقلت بالاتجاه المعاكس. كما أن أصل كلمة “القناة” العربي يعتبر دليلاً على أن نظام الري تحت الأرضي إنما نشأ في شبه الجزيرة العمانية وليس في إيران.