علم الهندسة والاستفادة من الحضارات السابقة


علم الهندسة والاستفادة من الحضارات السابقة

من البديهيات المسلم بها أن الجوار من قنوات انتقال الحضارات، وأن الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدي أمم كثيرة، فالحضارة متواصلة العطاء، وقيمة كل أمة في ميزانها يساوي ما قدمته مطروحًا منه ما أخذته من الحضارات التي سبقتها، وبهذا فلا ينكر عاقل أن الحضارة العربية الإسلامية أخذت من حضارات سبقتها، ولكنه وإتماما لذلك – على نحو ما سنرى – فإنها واصلت العطاء، ووشّت بساط الحضارة الإنسانية بكل ما هو جميل وراق.
إن ما قام به العرب المسلمون لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم، ولئن أشعل العرب سراجهم من زيت حضارات سبقت، فإنهم ما لبثوا أن أصبحوا شعلة وهّاجة بذاتها، استضاء بنورها أهل العصر الوسيط، وإن ما يُدْعي (المعجزة اليونانية) تنفيها الحقائق العلمية التاريخية وتنقضها، يقول السِّير هنري مين: “وإذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء لم نجد شيئا يتحرك في هذا العالم إلا وهو يوناني في أصله” وتبنى فيليب حتّى هذا الادعاء، فجعل دور العرب المسلمين في مقام الوسيط ـ كساعي البريد ـ في أن نقلوا إلى أوربا خلال العصر الوسيط بضاعتهم اليونانية.
والحقيقة التاريخية تنفي وجود (المعجزة اليونانية)؛ لأن الحضارة اليونانية امتداد لحضارة وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام واقتباس منها، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارات السابقة في شرقي المتوسط ومصر الكثير من مختلف العلوم، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان، ونُسى الأصل أو تنوسي. يقول وُلْ ديورانت: فطاليس (536 ق.م) زار مصر عدة زيارات ونقل من العلوم الهندسية المتقدمة من مدارس الإسكندرية، وفيثاغورس (497 ق.م) زار مصر عدة مرات، ثم مكث ببابل مدة طويلة، وقد بات من المعروف أن نظرية: مربع الوتر في المثلث القائم يساوي مجموع مربع الضلعين الآخرين، أخذها فيثاغورس من بابل، ونسبها إليه دون عزو لمصدرها، أو نسبت إليه، إن لوحة (تل حرمل) الحجرية التي عُثِرَ عليها في ضواحي بغداد تدل يقينًا على أن البابليين سبقوا اليونانيين في حساب المثلثات القائمة والمتشابهة بمئات السنين.

ومن هنا فمن السذاجة والخطأ الادعاء بأننا لم نأخذ ممن سبقنا؛ وذلك لأننا لم نبدأ من الصفر، ولو بدأت كل حضارة في مضمار العلوم من الصفر لما ازدهرت حضارة، ولما وصلت الحضارة اليوم إلى ما وصلت إليه من هذا التقدم العلمي المذهل، وعليه فإن المسلمين أخذوا أصول الهندسة عن اليونان، وقد ترجموا كتاب إقليدس في الهندسة وسموه الأصول، وذلك في عهد الخليفة المنصور .

إضافات المسلمين لعلم الهندسة وعلم الحيل النافعة
كما أنه لا ضير في أن نقر بأن المسلمين اعتمدوا على من سبقهم في قيام نهضتهم وحضارتهم في علم الهندسة، فإنا لا نستطيع أن نقر وجهة النظر التي تقول: “إن اليونان لم يتركوا في الهندسة القديمة زيادة لمستزيد، ولم يستطع أحد بعد إقليدس الذي دون علم الهندسة (330 – 320 ق.م) أن يزيد على هذا العلم شيئًا أساسيًا، أعظم أفضال العرب على الهندسة أنهم اهتموا بها حينما أهملتها الشعوب ثم حفظوها من الضياع، وناولوها للأوربيين في زمن باكر، فلقد أخذ الأوروبيون الهندسة اليونانية عن العرب لا عن اليونان، ونقلوها إلى اللغة اليونانية”.
فهذا الرأي لا يستقيم لا منطقيًا ولا علميًا، يشهد بذلك علماء الغرب أنفسهم على نحو ما سنورده في هذا البحث وفي هذا الموضوع بالذات، ولا أدري كيف نعت صاحب هذا الرأي الهندسة بـ(القديمة)؟! ألأجل أن يكون ذلك علم خاص فقط باليونان، ومن ثم فلا يستطيع أحد أن يجاريه أو يزيد عليه؛ مما يتسنى له بعد ذلك أن يطلق هذا الحكم؟ وإذا كان الأمر كذلك فهذه تعد مثلبة وليست منقبة لليونان أصحاب الهندسة (القديمة)، ومفخرة لأصحاب الهندسة الحديثة.
فمن المسلم به تاريخيًا وعلميًا أن المسلمين أضافوا إضافات جوهرية كثيرة، وأدخلوا أمورًا جديدة على هندسة من سبقهم، وكان من ذلك: تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية وكذلك الدائرة، وقد ألف الكندي الرسائل المختلفة في تقسيم المثلث والمربع واستخرج سمت القبلة، وكان يرجع إلى مؤلفاته المعماريون عند القيام بحفر الأقنية والجداول بين دجلة والفرات، وأدخل المسلمون أيضا المماس والقواطع، واستخدموا فن الزخرفة الذي يعتمد على قواعد هندسية في رسم المغلقات، وترتيب الخطوط، وأوراق النبات، وجمع المسلمون بين الهندسة والجبر، ولذلك يُعتبرون واضعي الهندسة التحليلية.

ولقد ذكر صاحب الرأي السابق أن اهتمام العرب (المسلمين) بالناحية العملية من الهندسة كان أكثر من اهتمامهم بالناحية النظرية، تشهد بذلك المباني والقصور التي نهضت في المشرق والمغرب.. “. ولا تعليق!!
وإحقاقا للحق فقد ظل المسلمون يبدعون ويضيفون الكثير والكثير مستلهمين ذلك من أمور دينهم ودنياهم، حتى ظهر علم الهندسة وتبلور على أيديهم، وبدت معالمه الكلية واضحة جلية، وازدهرت تقنيات الهندسة الميكانيكية في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، واستمر عطاء المسلمين فيها حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).
وكانت هذه التقنيات تعرف عند المسلمين باسم “الحيل النافعة”، وهي آلات وتجهيزات يعتمد البحث فيها على حركة الهواء (الإيروديناميكا)، أو حركة السوائل واتزانها (الهيدروديناميكا و(الهيدروستاتيكا).
وإذا كان أعلام الحضارة الإسلامية قد اطلعوا على بعض ما خلفه قدماء المصريين والفرس والهنود والصينيون والإغريق في “علم الحيل” أو الهندسة الميكانيكية – بلغة العلم المعاصرة – إلا أن ما ورثوه عن الحضارات السابقة كان محدودًا من الناحيتين النظرية والتطبيقية على حد سواء، فطوروه وأضافوا له القواعد العلمية، وصنفوا فيه كتبًا رائدة، لا يزال الكثير منها مجهولاً أو مفقودًا.

ويمثل علم “الحيل النافعة” الجانب التقني المتقدم في علوم الحضارة الإسلامية، حيث كان المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية للإفادة منها في كل ما يخدم الدين، ويحقق مظاهر المدنية والإعمار.
وقد جعلوا الغاية من هذا العلم هي: “الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير”، ويقصد به استعمال الحيلة مكان القوة، والعقل مكان العضلات، والآلة بدل البدن.

وهي نزعة حضارية تتسم بها الأمم التي قطعت أشواطا في مجالات العلم والحضارة، كما أنها المحور الذي تدور حوله فلسفة أي اختراع تفرزه عقول العلماء يوميا؛ سعيا وراء تحسين حياة الإنسان، ورفع المشقة عنه قدر الإمكان.
ولعل من الأبعاد الأخلاقية التي قادت العقل الإسلامي في اتجاه الإبداع والتفرد في مجال الحيل النافعة أن الشعوب السابقة على المسلمين كانت تعتمد على العبيد، وتلجأ إلى نظام السُّخرة في إنجاز الأعمال التي تحتاج إلى مجهود جسماني كبير، دون النظر إلى طاقة تحمّل أولئك العبيد..
فلما جاء الإسلام نهى عن السخرة وكرّم العبيد، فمنع إرهاقهم بما لا يطيقون من العمل، فضلا عن تحريم إرهاق الحيوانات – كما بينا ذلك في عنوانه – وتحميلها فوق طاقاتها.. إذا عرفنا ذلك وأضفنا إليه ضرورات التعمير والبناء – بكل أشكالها – التي صاحبت اتساع الحضارة الإسلامية.. فسوف ندرك جانبا هاما من دوافع هذا السبق الفريد في مجال التكنولوجيا عند المسلمين، أو قل: “الحيل النافعة”!!

فبعد أن كانت غاية السابقين من علم الحيل لا تتعدى استعماله في التأثير الديني والروحي على أتباع مذاهبهم، مثل استعمال التماثيل المتحركة أو الناطقة بواسطة الكهان، واستعمال الأرغن الموسيقى وغيره من الآلات المصوتة في المعابد، فقد جاء الإسلام وجعل الصلة بين العبد وربه بغير حاجة إلى وسائل وسيطة أو خداع بصري، وأصبح التأثير على الإنسان باستعمال آلات متحركة (ميكانيكية) هو الهدف الجديد لتقنية “الحيل النافعة” .
ولعل من أهم إنجازات الهندسة الميكانيكية (أو علم الحيل النافعة) ما ظهر واضحًا في الإمكانيات التي استخدمها المسلمون في رفع الأحجار ومواد البناء لإتمام الأبنية العالية من مساجد ومآذن وقناطر وسدود.. فيكفيك أن ترى الارتفاعات الشاهقة لمعالم العمارة الإسلامية في عصور غابت عنها الروافع الآلية المعروفة في زماننا.. لتعلم براعة المهندسين المسلمين في التوصل لآلات رفع ساعدت – ولا شك – على إنجاز تلك الأعمال الخالدة.. وإلا فكيف يمكن أن ترفع مئذنة فوق سطح مسجد سبعين مترا.. أي ما يزيد على عشرين طابقا..؟!
ولا ننسى في هذا السياق “سور مجرى العيون” في القاهرة أيام صلاح الدين الأيوبي، والذي كان ينقل الماء من فم الخليج على النيل إلى القلعة فوق جبل المقطم، وكانت هناك ساقية تدار بالحيوانات ترفع المياه لعشرة أمتار ليتدفق في القناة فوق السور وتسير بطريقة الأواني المستطرقة حتى تصل إلى القلعة!

ومن هنا تتجلى عظمة المسلمين في هذا الفن، ولا يستطيع أن ينكر دورهم في ذلك إلا جاحد، يقول محمد كرد علي: وللعرب (المسلمين) في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلي في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم ثياب من ثياب الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها، كما قال أحد العارفين من الإفرنج.