ما هي المساحة


المساحة

المساحة إذن علمٌ قديم يعني ذرع الأرض أي قياسها؛ فالأولى أن لا يصيبها العيب من جهة الاسم لأهمية عملها وضرورته. ويمكننا مع تطوّر العلوم والتقنية أن نوسِّع التعريف السابق فنقول: إنَّ المساحة هي العلم الذي يعني بالقياسات الدقيقة المنضبطة للأرض وللأشياء عليها وفيها وحولها.

والحصول على قياسات دقيقة منضبطة يعني الحصول على معلومات مفيدة جدًّا؛ تهمُّ النَّاس جميعًا في مناشطهم وأعمالهم المختلفة بدرجاتٍ متفاوتة من الأهمية. فكيف دخل للنَّاس من جهة الاسم التَّصور السلبي لعلم المساحة؟ هل ذلك راجعٌ إلى سوء بعض معاني كلمة مسح التي عرضناها فيما سبق، أم إلى شيءٍ آخر؟ دعونا نتعرَّف على بعض العوائق التي حالت بين المفهوم الصحيح لهذا العلم وعقول النَّاس.
عوائق في سبيل الهندسة المساحية

1. مفهوم الأسماء
لم يبتل تخصص، فيما أعلم، في اسمه ورسمه كما أبتلي تخصص الهندسة المساحية. وسأضرب مثالين اثنين أحدهما من الاسم والآخر من الرسم، وهما المساحة والخريطة.
أ- المساحة (Surveying)
فالمساحة عند عامة الناس متصوَّرة ومعروفة وأشهرها مساحة الشَّكل المربع والمستطيل وأقرب شيء من الأرض يمثل المربع والمستطيل وذو أهمية بالغة في حياة النَّاس هي قطع الأرض العقارية المعدة للسكنى أو الفلاحة؛ لذا فعلم المساحة يُختزل عند فئة عظيمة من الناس في قياس مساحات الأراضي السكنية والزِّراعة ودليلهم على ذلك الأجهزة التي تُنصب على الطرقات من حين لآخر لتنفيذ هذه القياسات …

المساحة

ومشكلة هذا المفهوم عالمية وليست خاصة بدولة دون أخرى؛ فتخصص المساحة في الدُّول المتقدمة تقنيًّا يعاني أشد المعاناة من الفهم الضيق لوظيفته من النَّاس عامة متعلمهم وجاهلهم. وقد يستخدم المرء تقنية ما في حياته ولا يعلم أنَّها تنتمي إلى هذا الفرع من المعرفة وتدرَّس فيه بتفصيل ميسَّر. ولذا ترى المعنيين بهذا العلم يسعون سعيًّا حثيثًا إلى تغيير اسمه، فهم يستبدلون به اسم الـ”جيوماتكس” (Geomatics). وهذه الاسم الجديد المركب من بعض حروف ثلاثة أسماء مشهورة يعمل المتخصص في محيطها قرَّبه من الواقع كثيرًا وبدأ في تغيير الصورة النَّاقصة المشوه له. وتبقى العقبة لدينا قائمة إذ لو أدخلنا هذا الاسم الجديد كما هو لما فُهم منه شيء، ولاحتجنا إلى الوقت الطَّويل لبثه في النَّاس؛ ولربما عُدنا إلى القديم متمثلين قول القائل: “أبا منذرٍ أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشَّر أهون من بعض”. فليس أمامنا إلاَّ الصبر والعمل على تغيير المفهوم الضيِّق الذي تربَّع في عقول كثيرٍ من المتعلمين والمثقفين قبل أن يحلَّ في عقول العامة من النَّاس.

ب- الخريطة (Map).
فالخريطة هي الوعاء من القماش المصنوع بطريقة خاصة ليحفظ فيه بعض المتاع ليسهل حمله. ولا شكَّ عندي أن الرُّسومات والمخططات التي كان ينجزها العالم بها كان يضعها في خريطة لحفظها. فإذا ما أرادها أن تحضر له، قال: هات الخريطة. وهو لا يريدها لذاتها إنَّما يريد ما بداخلها؛ ويبدو أنَّه لكثرة ما يُردد هذا الاسم العام (الخريطة) من أجل الشيء الخاص به تمَّ إطلاق اسم الحاوي على المحتوى، أو اسم العام على الخاص وذاع في النَّاس ….

والمشكلة ليست في هذا الإطلاق فهو مألوف في غيره، إنَّما المشكلة تحدث عند النسبة إلى هذا الاسم، فمن غير المألوف أن تقول مثلاً “جاء المخرطون”، أو “هذا هو المُخرِّط” … فيا ليت العام بقي عامًا والخاص خاصًا في خريطتنا هذه. وقد تكون هذه المسميات مناسبة في بيئة دون بيئة حسب الشائع في الاستعمال والمفهوم من القول، لكنَّها عندنا لا تصلح، أو لا يصلح بعضها على الأقل وإن كان منها ما هو مألوف من الماضي كقولك: “دون كذا من الأمر خرط القتاد”، وقولك: “خرطت عذق التمر”، و”انخرط فلان في البئر” وغير ذلك. ولا يقول قائل لماذا لا نقول صانع الخريطة عند النسبة إلى الخريطة؟ فهذه نعرفها، ووجودها لا يُلغي ما هو أولى منها.

وجاء في بعض كتب الأدب عن براعة الفارابي العالم المشهور المبدع في كثيرٍ من الصنعات أنّه أخرج في حضرة سيف الدولة “من وسطه خريطة ففتحها، فأخرج منها عيدانًا وركَّبها، ثمَّ لعب بها، فضحك كلُّ من في المجلس، ثمَّ فكها وركبها تركيبًا آخر، فبكى كلُّ من في المجلس، ثمَّ فكَّها وغيَّر تركيبها؛ فنام كلُّ من في المجلس. فتركهم نيامًا وخرج”. قلت لعل ضياع الأمة بدأ بعيدان الفارابي، وما ماثلها من عيدان في تلك الحقب المزدهرة بالعلوم والفنون الكثيرة.

ولا يزعزع مفهومنا هذا عن الخريطة ما ذهب إليه صاحب محيط المحيط من القول بأن الخارطة هي معرّب كارتا باللاتينية ومعناها ورقة وجمعها خارتات. فنحن نقول الخريطة للدلالة على الخارطة ولم نكتف بالخارطة المعربة من اللاتيني. ولو أكتفينا بخارطة لبقيت مشكلة النسبة إليها كمشكلة النِّسبة إلى خريطة بل قد تكون أسوأ. وقد يكون مصدر الكلمة في اللغة واحدًا وإن جاءت في لغات مختلفة بصرف النظر عن مَن أخذ مِن مَن، ولكن هذا لا يُغيِّر شيئًا من حقيقة معناها ومفهومها لدى النَّاس.

مميزات الهندسة المساحية
من أهم مميزات الهندسة المساحية أنَّها جزء من تقنيات العولمة تأخذ منها وتعطي. فالهندسة المساحية تستطيع أن تمثِّل التفاصيل الدقيقة عن الأشياء على مساحات شاسعة من الأرض أو عليها كلِّها بدقةٍ عالية وتجعلها في متناول يد المهتم بها في الحقول المختلفة. وهذه الخاصية هي إحدى مقومات العولمة التى نعيشها طوعًا أو كرها.

ومن هنا فالهندسة المساحية تتكامل وتترافد بدرجاتٍ متفاوتة مع التخصصات (العلوم) الأخرى كافة. وهذه ليست مزيَّة خاصة بالهندسة المساحية وحدها، فكلُّ العلوم كذلك، إنَّما نقول هذا لأن من النَّاس من لا يرى ذلك، بل يعتبر من يراه من المفسدين في الأرض. وإليكم بشيءٍ من الإجمال بعض العلوم التي تتكامل وتترافد معها الهندسة المساحية في صورة من صور التكامل الكثيرة:
العلوم الكهربائية
العلوم الصناعية
العلوم النَّفطية
العلوم المائية
العلوم العمرانية
العلوم الجغرافية
العلوم الزراعية
العلوم الجيولوجية
العلوم الحاسوبية
العلوم الرياضية
العلوم الفيزيائية
العلوم الكيميائية
العلوم الطِّبية
العلوم الاقتصادية
علوم الطرقات
علوم التُّربة
علوم البيئة

تخصصات الهندسة المساحية
ومن أفضل السُّبل لمعرفة الهندسة المساحية أن ينظر إليها من خلال تخصصاتها أو فروعها المعروفة. وسنكتفي هنا بذكر أهم الفروع العامة في عالم اليوم دون التفصيل في التصنيف لأنَّه قد يأخذ أوجهًا مختلفة أمَّا بحسب العلم والتقنية وتطورهما عبر القرون (تصنيف زماني)، أو بحسب مدى أو حيز العمل المراد إنجازه (تصنيف مكاني)، أو بحسب نوع المشكلة المراد حلّها وما يلائمه من تقنيات (تصنيف نوعي)، أو بحسب ذلك كله أو بعضه أو غيره كما يظهر من التَّصنيف التالي الذي نقسم فيه فروع علم المساحة إلى مجموعتين أساسيتين هما: