اعتبارات في سلامة الأغذية وحماية المستهلكين


سلامة الأغذية هي قضية أساسية في الصحة العامة في جميع البلدان. وتُعتبر الأمراض المنقولة بالأغذية بسبب كائنات مُمرضة ميكروبية أو توكسينات بيولوجية وملوثات كيميائية تهديداً كبيرا لصحة آلاف الملايين من الناس. وقد حدثت في العقود الماضية حالات مرضية ضخمة بسبب الأغذية في كل قارة من القارات، مما يُثبت أهمية هذه الأمراض وخطورتها على الصحة العامة والمجتمع. وينظر المستهلكون في كل مكان إلى انتشار الأمراض المنقولة بالأغذية على أنه مصدر قلق متزايد دائماً، ولكن المحتمل أن يكون ظهور الأمراض هو مجرد الجانب الظاهر من مشكلة أوسع من ذلك بكثير وأطول أمداً. وتؤثر تلك الأمراض تأثيراً كبيراً في صحة الناس وطريقة عيشهم، بل إن لها نتائج اقتصادية للأفراد والعائلات والمجتمعات ولدوائر الأعمال ولبلدان بأكملها. وتُلقي هذه الأمراض عبئاً ثقيلاً على نظم الرعاية الصحية وتقلل من الإنتاجية الاقتصادية بدرجة ظاهرة. ولما كان الفقراء يعيشون من يوم إلى يوم فإن خسارة الدخل بسبب أمراض منقولة بالأغذية تعني أن دورة الفقر ستظل قائمة لأمد طويل.

 

download-1

 
وبسبب تكامل صناعات الأغذية وتلاحمها فيما بينها وبسبب عولمة التجارة الغذائية أخذت أنماط إنتاج الأغذية وتوزيعها تتغير. فالأغذية والأعلاف أصبحت توزع على مسافات أكبر بكثير مما كان عليه الأمر من قبل، وبذلك تنشأ الظروف الملائمة لانتشار الأمراض المنقولة بالأغذية. وفي أزمة وقعت أخيراً حصل اكثر من 500 1 مزرعة في أوروبا على أعلاف ملوثة بالديوكسين من مصدر واحد في مدة أسبوعين فقط. ووجدت الأغذية المشتقة من الحيوانات التي تغذت بهذه الأعلاف طريقها إلى جميع القارات خلال أسابيع. ولا حاجة إلى إعادة وصف انتشار اللحوم والعظام المستخرجة من أبقار مصابة بمرض الالتهاب المخي الاسفنجي أو جنون البقر. ولم ينته حتى الآن تقييم النتائج الاقتصادية الكاملة لهذه الحوادث وللقلق الذي أثارته لدى المستهلكين.
وهناك عوامل أخرى وراء النظر إلى سلامة الأغذية باعتبارها قضية من قضايا الصحة العامة. فاتساع المدن يؤدي إلى زيادة المتطلبات اللازمة لعمليات نقل الأغذية وتخزينها وتجهيزها. وفي البلدان النامية كثيراً ما يتولى تجهيز الأغذية باعة في الشوارع. وأما في البلدان المتقدمة فنحو 50 في المائة من الميزانية الغذائية تُنفق على أغذية أُعدّت خارج المنزل. وهذه التغيرات كلها تؤدي إلى ظهور أوضاع يستطيع فيها مصدر وحيد من مصادر التلوث أن يُحدث آثاراً واسعة النطاق بل وآثاراً في العالم بأكمله.
ولا شك أن عولمة التجارة الغذائية تحقق منافع كثيرة للمستهلكين إذ أنها تؤدي إلى اتساع وتنوع الأغذية الجيدة التي يمكن الحصول عليها بأسعار معقولة والتي تكون مأمونة بما يلبي مطالب المستهلكين. وتفتح التجارة العالمية بالأغذية فرصاً للبلدان المصدرة لكسب النقد الأجنبي الذي لا غنى عنه للتنمية الاقتصادية. ولكن هذه التغيرات تُثير تحديات جديدة أمام سلامة إنتاج الأغذية وتوزيعها وقد تبيّن أن لها انعكاسات واسعة النطاق على الصحة.
ويتزايد التركيز في برامج سلامة الأغذية على أسلوب من المزرعة إلى المائدة باعتباره وسيلة فعالة لتقليل مصادر الخطر الذي تنقله الأغذية. وهذا الأسلوب الشامل في الرقابة على الأخطار الغذائية يتطلب النظر في كل خطوة من خطوات السلسلة الغذائية ابتداءً من الخامات حتى استهلاك الأغذية. إذ أن مصادر الخطر يمكن أن تدخل إلى السلسلة الغذائية في المزرعة وتستمر موجودة فيها، أو يمكن إدخالها أو يمكن أن تتفاقم في أي نقطة من نقاط السلسلة.
ورغم التقدم الكبير في إنتاج أغذية أسلم في كثير من البلدان فإن آلاف الملايين من الناس يصابون بأمراض كل سنة بسبب تناول أطعمة ملوثة. وتتفاقم الصورة بسبب ظهور مقاومة متزايدة لمضادات الميكروبات في البكتريا. ويتزايد وعي الجمهور بمخاطر الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض وبوجود مواد كيميائية في الأغذية. وهناك تحدٍ خاص يرجع إلى إدخال تقنيات جديدة، بما في ذلك الهندسة الوراثية والمعالجة بالإشعاع، في هذا الجو المشحون بالقلق من سلامة الأغذية. فبعض التقانات الجديدة قد يزيد الإنتاج الزراعي ويجعل الأغذية أسلم، ولكن فائدتها وسلامتها تحتاج إلى إثبات حتى يقبلها المستهلكون. يُضاف إلى ذلك أن التقييم يجب أن يكون تشاركيا وشفافاً وأن يجري بحسب الأساليب الدولية المتفق عليها.

 

 

download-2

وحتى وقت قريب كانت معظم نُظم سلامة الأغذية تعتمد على تعاريف قانونية للأغذية غير المأمونة وعلى برامج إنفاذ لاستبعاد الأغذية غير المأمونة من السوق وتوقيع عقوبات على المخالفين بعد ضبط الواقعة. ولكن هذه الأنظمة التقليدية لا تستطيع التجاوب مع التحديات القائمة الآن والتحديات الناشئة في مجال سلامة الأغذية لأنها لا تتبع الأسلوب الوقائي ولا تعمل على تنشيطه. وفي السنوات العشر الأخيرة حدث انتقال إلى تحليل المخاطر استناداً إلى معارف علمية محسّنة عن الأمراض المنقولة بالأغذية عن أسبابها. وبذلك يتوافر أساس للوقاية يمكن أن تسير عليه تدابير تنظيم سلامة الأغذية على المستويات الوطنية والدولية على السواء. ويجب أن يكون الأسلوب القائم على تحليل المخاطر معتمداً على معلومات عن أنسب الطرق وأفعلها للرقابة على مصادر الخطر الغذائي.
مصادر الخطر الميكروبيولوجية
كانت أخطار الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض التي تنقلها الأغذية معروفة طوال عشرات السنين. ومنذ بداية القرن العشرين أصبح معروفاً أن هناك خطراً من انتقال السُل والإصابة بالسلمونيلا بسبب اللبن وكانت بداية التدخل في هذا المجال هي الرقابة بواسطة البسترة. وبالمثل أمكن إدارة مشكلات التسمم بالبوتولين بتسخين الأغذية قليلة الحموضة في أوعية لا يدخلها الهواء. ورغم التقدم الكبير في علوم وتكنولوجيا الأغذية فإن الأمراض المنقولة بالأغذية هي سبب في زيادة الأمراض في جميع البلدان، وأخذت قائمة الكائنات الميكروبية المسببة للأمراض بواسطة الأغذية تتزايد مع مرور الزمن. يُضاف إلى ذلك أن الأمراض المنقولة بالأغذية هي سبب رئيسي من أسباب الوفاة التي يمكن توقيها، وهي أيضاً عبء اقتصادي في معظم البلدان. ولكن للأسف لا تتوافر لدى معظم البلدان إلا بيانات محدودة عن الأمراض المنقولة بالأغذية وعن تأثيرها على الصحة العامة.
ومنذ وقت قريب فحسب بدأ تقييم عبء تلوث الأغذية والأمراض المنقولة بالأغذية ووضع تقدير كمي لهذا العبء. وقد أكدت الدراسات عن الأمراض المنقولة بالأغذية في الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وألمانيا والهند مدى ضخامة المشكلة التي تصيب الملايين من الناس بالأمراض أو تؤدي إلى وفاتهم. وتدل البيانات على أن نحو 30 في المائة من سكان البلدان الصناعية ربما تصيبهم أمراض منقولة بالأغذية كل سنة. ويصعب وضع تقدير لمدى انتشار هذه الأمراض على المستوى العالمي ولكن كان المقدَّر عام 1998 أن نحو 2.2 مليون شخص، منهم 1.8 من الأطفال، لقوا حتفهم بسب أمراض الإسهال.
ولم يوضع تقدير للتكاليف الاقتصادية الراجعة إلى أمراض تنقلها الأغذية بسبب كائنات دقيقة إلا من وقت قريب. والمقدَّر في الولايات المتحدة أن تكاليف أمراض البشر الراجعة إلى 7 من الكائنات المُمرضة بالتحديد يتراوح بين 6.5 مليار و34.9 مليار دولار أمريكي 2. وأما في إنكلترا وويلز فقد قُدرت التكاليف الطبية وقيمة ضياع الحياة بسبب خمس إصابات تُسببها الأغذية بمقدار 300 إلى 700 مليون جنيه إسترليني في السنة عام 1996 3. كما أن التكاليف التقديرية لنحو 500 11 حالة تسمم غذائي في اليوم في أستراليا حُسبت على أنها 2.6 مليار دولار أسترالي سنوياً 4. وفي الهند، وعلى أساس دخل الفرد، تبيّن أن العبء الاقتصادي الواقع على المصابين بالتسمم الغذائي بسبب Staphylococcus aureusكـان أكبر منه في حالة وقوع نفس الإصابات في الولايات المتحدة5.

 

 

download
وبسبب حدوث انتشار كبير لأمراض راجعة إلى E. coli وسلمونيلا برزت مشكـلات سلامة الأغذية وزاد قلق الجمهور من نُظم الزراعة الحديثة ونُظم تجهيز الأغذية وتسويقها التي ربما لا توفر الضمانات الكافية لصيانة الصحة العامة. وإذا كان فهمنا لإيكولوجيا كائنات التسمم الغذائي والبيئة التي تنمو فيها وتعيش قد زاد فإن قدرتنا على مكافحة بعض هذه الكائنات قد تناقصت. وقد يرجع ذلك في جزء منه إلى اتباع أساليب إنتاجية معدلة وإلى نقص الرقابة على مصادر الخطر في المزرعة، وإلى صعوبات مكافحة مصادر الخطر أثناء عمليات الإنتاج الصناعي، وإلى زيادة الطلب على الأغذية الطازجة، والاتجاه نحو تقليل تجهيز الأغذية وإلى إطالة العمر الافتراضي لكثير من المواد الغذائية. فمثلاً لا تزال السلمونيلا مصدراً رئيسيا للتسمم الغذائي بل إن انتشارها آخذ فـي الزيادة. وتنتشر سلمونيلا Typhimurium DT 104 انتشاراً كبيراً في قطعان الأبقار وهي تقاوم كثيراً من مضادات الحيوية، كما يتزايد انتشار كائنات أخرى تقاوم مضادات الحيوية. ويحتاج أكثر من ثلث المصابين بهذه الكائنات إلى دخول المستشفى وتصل نسبة الوفاة إلى نحو 3 في المائة.
وقد برز دور Escherichia coli 0157:H7 في تسبيب النزيف المعوي باعتبارها من مسببات الأمراض المنقولة بالأغذية في حالات كثيرة، وأصبحت معروفة بدرجة كبيرة بسبب كثرة انتشار المرض. وكان أول اعتراف بأن هذا الكائن يُسبب أمراضاً عام 1982، ولكن التقدم نحو التعرف على مستودعات هذا الكائن ومصادره لم يسر بخطى سريعة بسبب عدم وجود أساليب كشف حساسة بما فيه الكفاية. وهناك سلالات أخرى من نفس هذا الكائن E.coli (EHECs) التي تسبب النزيف المعوي تثير مشكلة خاصة لأن مـن المستحيل التفرقة في مزرعة بينها وبين بقية الكائنات الموجودة في الأمعاء، فهذا يتطلب تقنيات متقدمة.