المعمارية
المعمارية

تنوع مواد البناء لها تأثيراً كبيراً على الأنماط العمرانية و المعمارية


تنوع مواد البناء المتوفرة قد أثر تأثيراً كبيراً على الأنماط العمرانية والمعمارية للمستوطنات التقليدية في المملكة العربية السعودية، إلا أن هذه الأنماط على اختلافها قد تميزت جميعها بالصراحة في إبراز مواد البناء وفي تقديم حلول وتصاميم معمارية وعمرانية تفي باحتياجات المستخدمين وتلائم البيئة المحيطة، مما أدى إلى استمرار هذه الأنماط لأزمان طويلة.
لقد استمر بناء المساكن في المملكة العربية السعودية بالطريقة التقليدية إلى ما قبل أربعة أو خمسة عقود مضت. ولكن مع ظهور وتوفر مواد البناء الجديدة، مثل الأسمنت والخرسانة المسلحة في أواخر الخسمينات من القرن الهجري الماضي، بدأت مناطق المملكة تشهد ظهور نمط معماري جديد في شكل نماذج مختلفة من العمارات والفيلات والقصور السكنية، التي شيدت من الخراسانة والتي تعتمد على الأجهزة الحديثة في التبريد والتدفئة، كما تعد هذه النماذج الإسكانية المنفذة بمواد البناء الحديثة نماذج مستوردة وغريبة عن البيئة، فهي لم تتم تلقائيا ضمن منظومة المؤثرات البيئة والاجتماعية والثقافية للسكان، بل قطعت حبل التطور القائم على التجارب المتتابعة منذ عهد بعيد.
لقد ساهم توفر واستخدام مواد وتقنيات البناء الجديدة وأنظمة التبريد والتدفئة الصناعية الحديثة بشكل فعال في اختفاء أنماط المساكن التقليدية، وتشابه الطابع المعماري للمساكن في جميع مناطق المملكة على اختلاف خصائصها المناخية والطبوغرافية والبيئية ولكن، مما لا شك فيه أن استبدال مواد وتقنيات البناء المحلية التقليدية، مكن السكان من الحصول على فراغات معمارية أكبر وبذل جهد أقل في صيانة مساكنهم والعناية بها، كما توفرت لهم العديد من سبل الراحة الحديثة في المساكن، إلا أن المساكن المعاصرة في الجانب الآخر تفتقد الكثير من الحلول والمعالجات المعمارية التقليدية البيئية منها أو الاجتماعية (مثل الحفاظ على الستر والخصوصية) التي كانت توفرها لهم المساكن التقليدية من خلال بعض العناصر المعمارية (مثل الأفنية الداخلية والمشربيات والمداخل المنكسرة) التي ابتدعها المجتمع عبر سنين من التجربة والتطوير للوصول بتلك الحلول إلى درجة المثالية في تحقيق الوظيفة والتوافق مع الاحتياجات الاجتماعية والمتغيرات المناخية.
لقد كانت المساكن الطينية – في منطقة نجد مثلا- تظهر من الخارج بسيطة ومتواضعة فإذا دخلها الداخل وجد صحنها المشرق الذي تطل عليه الغرف المشمسة الدافئة شتاء، والباردة صيفاً، كانت هذه المساكن التقليدية ذات الفناء مشتى ومصيفا، كما أنها عالم مستقل لا ترى منها ولا ترى، مستورة لا يرى من فيها أحدا، ولا يراهم أحد، لا نافذة لها على الجيران، ولا شرفة للجيران عليها، وليست كالفيلات المعاصرة التي وإن وجدت نوافذها على الجهات الأربعة إلا أنها مغلقة مطبقة لا يمكن أن يرى فيها وجه السماء إلا إن فتحت نوافذها أو تم الخروج إلى شرفتها (البلكونة) فيصبح الساكن على مرأى من المارة والجيران جميعا، كما وأن المساكن الطينية المتلاصقة، التي كانت تشترك مع بعضها البعض في الحوائط، تمنح توفيراً كبيراً في مواد البناء وفي استهلاك الطاقة، فحوائطها الخارجية لا تتعرض لنفس القدر من العوامل المناخية عند مقارنتها بالمساكن المنفصلة، وتنخفض بالتالي تكاليف الطاقة اللازمة لتبريدها وتدفئتها.
أهمل التعليم المعماري في المملكة العربية السعودية خلال سنواته الأولى العمارة التقليدية بشكل شبه كامل. واختفى كذلك التطبيق الحقيقي للعمارة التقليدية بمفاهيمها وعناصرها وحلولها ومعالجتها المعمارية خلال العقود القليلة الماضية، فلم تظهر سوى بعض الأمثلة لمبان سكنية أو تجارية مغلقة من الخارج فقط بشكل العمارة التقليدية، وتفتقد التطبيق الحقيقي لمضامين ومفاهيم العمارة التقليدية الأصيلة، فتلك الأمثلة لا تعدو أن تكون ردة فعل عاطفية فقط وحنين إلى التراث من دون وعي أو فهم لمحتوى هذا الإرث المعماري العريق.
ولكن ولله الحمد بدأت تظهر مؤخرا بوادر إيجابية، وإن كانت في بداياتها، للاهتمام بالعمارة التقليدية وجعلها ضمن مناهج التعليم المعماري في كليات وأقسام العمارة بالجامعات السعودية بمبادرات من صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز، وقد نتج عن هذا الاهتمام تخصيص مقررات للعمارة التقليدية والعمل على إعداد بعض الدراسات والبحوث العلمية التي تسعى إلى الحفاظ على العمارة التقليدية وتوثيقها وتطويرها.
وإن كانت تلك خطوة إيجابية على الطريق، إلا أن على الباحثين والمتخصصين في مجال العمران الاهتمام بدراسة وتحليل نماذج الإسكان التقليدي التي شكلت من مواد البناء المحلية وبتكيف مع المؤثرات المناخية السائدة،وحسب الاحتياج الاجتماعي والاقتصادي للسكان، واستخلاص إيجابياتها من مختلف جوانبها التصميمية والتنظيمية، والعمل على تطويرها من خلال البحث العلمي والتطبيقي كمعايير يمكن توظيفها لتحسين البيئة السكنية المعاصرة، والاستفادة منها عند تخطيط وتصميم المشاريع السكنية في المستقبل.
كما يتطلب الأمر العودة إلى إنشاء المساكن بطرق ومواد البناء التقليدية (كالطين) وذلك بإعداد دراسات خاصة تخضعها لأصول العلم الحديث كعلم مقاومة المواد أو ميكانيكية التربة والرفع من كفاءتها كمادة بناء لا تتطلب صيانة مكلفة ومستمرة، وهو ما يتطلب دراسات خاصة بالنسبة للمعماريين والمهندسين ونظام فعال لتدريب الحرفيين والعمال، ويلزم العمل أيضاً على تطوير تقنيات البناء التقليدية كتقنية متوافقة أو متلائمة (Appropriate) Technology مع الإمكانات الاقتصادية والتقنية الراهنة للمجتمع، وذلك للعمل على تيسير امتلاك المسكن وبالذات في المناطق الريفية.
إن مشكلة العديد من الأسر في وقتنا الحاضر تكمن في كونها لا تملك المال الكافي لشراء أو بناء المسكن، وذلك عائد إلى كبر حجم المساكن المعاصرة والتعامل معها كمنتج نهائي بحجم وعناصر وفراغات محددة وثابتة منذ البداية، بينما يتطلب توفير مساكن بميزانية صغيرة العمل على توفير كامل مجال مستلزمات الراحة الضرورية والوظيفية للأسر المتكونة حديثاً ضمن مساحة محدودة تمكنها من بدء حياتها في وحدة سكنية صغيرة قابلة للنمو حسب احتياج الأسرة، إن أنماط المساكن المعاصرة لم تستطع أن تقدم بشكل متكامل حتى الآن حلولاً معمارية مبتكرة تستطيع استيعاب اقتصاديات المساحة والتكوين.
بينما نجد أن البناء المتتابع (أو المستمر) يعد ميزة طبيعية لبناء المساكن التقليدية في المملكة، حيث تبدأ الأسرة العادية بمسكن صغير يكبر معهم بشكل تدريجي على مر السنين، حيث تبنى المساكن التقليدية حسب احتياج الأسرة الحقيقي وعلى قدر مقدرتها المالية، فكانت مثالاً حقيقيا على الإسكان الميسر (Affordable Housing) الذي قام على عوامل التيسير المتمثلة في رخص تكلفة مواد البناء المتوفرة من البيئة المحيطة، وانخفاض تكاليف العمالة من خلال تعاون السكان مع بعضهم البعض على التنفيذ، وصغر مساحة المسكن لتعدد وظائف عناصره وفراغاته، والمرونة في نموه المستمر حسب احتياج الأسرة ومقدرتها المالية، بالإضافة إلى أن مواد بناء المساكن التقليدية تتحول عند تهدمها إلى مواد أولية يمكن إعادة استخدامها أو اندماجها مع البيئة دون أي تأثيرات سلبية.