الهندسة الهيدروليكية في ضل الحضارة الاسلامية


الهندسة الهيدروليكية

الهندسة الهيدروليكية لم يقتصر إبداع المهندس المسلم على الجانب المعماري وحسب.. بل تتجلى ايات الابداع في فروع هندسية اخرى كثيرة منها الهندسة الهيدروليكية التي تعنى بانظمة الري وامداد المياه..

ومع ان المهندسين المسلمين لم يكونوا اول من ابتكر علم الهندسة الهيدروليكية، فقد وجدت انظمة الري حول الموارد المائية والانهار خاصة منذ سكن الانسان هذه المناطق، الا ان التاريخ ودراسة الحضارة الاسلامية يؤكدان لنا ان قدم السبق كان للمسلمين في اختراع العديد من الوسائل والطرق المختلفة للامداد بالمياه، وقد ظهر ذلك جليا في العديد من حواضر العالم الاسلامي لا سيما بغداد والكوفة، وغيرهما من المدن التي انتشرت من حولها الانهار. بل ان بعض المصادر التاريخية تذكر ان نظم الري قد بلغت ذروة تطورها في الاراضي الشرقية للخلافة الاسلامية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين (الرابع والخامس الهجريين)، وظهر وسط العراق واحد من اهم هذه الانظمة، حيث سجل التاريخ تحولات رئيسية لمجرى كل من “دجلة” و”الفرات”، بالإضافة الى تغييرات في منطقة المستنقعات والبحيرات الضحلة الواقعة شمالي غرب البصرة.

وبالرغم من وضوح الاهتمام الكبير الذي أولتْهُ الهندسة الإسلامية لنظم الري وإمداد المياه؛ نظرًا لضرورات الزراعة والعمران المتجددة، والتي صاحبت النمو الكَمِّي والكيفي المُطَّرِد للمجتمع الإسلامي.. إلا أن إمداد المياه لأغراض غير زراعية كان أيضًا من القسمات المهمة للحياة الإسلامية؛ فإتاحة المياه لم تكن أمرًا مُسَلَّمًا به في مناطق عديدة من العالم الإسلامي، مقارنةً بوفرتها في مناطق المناخ الممطر.. إلى جانب ما كان للمسلمين من إحساس خاص (نابع من دينهم) بإلحاح الحاجة إلى الماء النظيف.. فضلاً عن الاحتياج الإنساني الفطري للماء العذب الذي تُعَدُّ مصادره ثروة لا تُقَدَّر بثمن في أي مجتمع.

ولم تقتصر تطبيقات هندسة الإمداد بالمياه في الحضارة الإسلامية على جانب الاحتياجات الأساسية الملحَّة.. فقد برع مهندسو المياه المسلمون في توظيف الماء لخدمة مجالات حضارية غير الري والشرب.. لم يكن أغلبها معروفًا قبل الحضارة الإسلامية..

 

 

 

 

الهندسة الهيدروليكية

 

 

ومن أهم هذه المجالات: الحمامات العامة التي عرفتها المدن الإسلامية بكثافة استرعت انتباه الرحالة والتجار الغربيين الذين ما كانوا يألفون مثل ذلك الاحتفال بالنظافة في بلادهم!!.. بينما كانت أعداد الحمامات في الحواضر الإسلامية (التي كان سكانها يتقرَّبون إلى الله بالطهارة) تزيد أحيانًا على عشرة آلافٍ في المدينة الواحدة!!..

وكانت الحمامات تُصَمَّم هندسيًّا بحيث تتيح للمستحم أن ينتقل تدريجيًّا من الجو الحار إلى الجو البارد حتى لا يصاب بأذى، وكان الحمَّام يُسَخَّن عن طريق إيقاد نار تحت أرضيته، كما كان يشتمل على أنابيب للماء الساخن والبارد داخل جدرانه!!

وإذا كانت الحمَّامات منتشرة لغرض الطهارة المهم دينيًّا وفطريًّا فإن هذا لا يجعلنا ننسى الاستخدامات الجمالية لهندسة المياه (أو الهندسة الهيدروليكية).. فقد عرفت المنشآت المعماريَّة الإسلامية وجود النافورات المائية الجميلة وانتشارها بكثرة في أفنية القصور والمساجد الكبرى؛ لتضفي على المكان جمالاً وبهجة، إلى جانب استخدام بعضها (في المساجد خاصَّةً) لأغراض الوضوء..

كما كانت الهندسة الهيدروليكية تضع بصماتها في الجانب الشكلي والجمالي للحدائق والبساتين؛ فكان يُراعَى شقُّ الجداول والنهيرات الصغيرة.. لا لإنجاز مهمَّة الري وحسب.. بل لتُبهِج النفوس بجمال تدفُّقها.. في مشهد تربَّى الذوق الجمالي الإسلامي على التعلق به من تكرار الوصف القرآني لنعيم (جناتٍ تجري من تحتها الأنهار!).

لا عجب – إذًا – وقد رأينا من تطبيقات الهندسة الهيدروليكية ما سبق.. أن نجد عند الجغرافيين المسلمين (في وصفهم لأي مدينة) اهتمامًا خاصًا ببيان مصادر إمداد المياه للسكان في هذه المدينة.. سواء أكانت ينابيع أو آبارًا أو أنهارًا.. وهنا يتبدى جهد المهندسين المسلمين في الاجتهاد لإمداد المدن بالمياه؛ حيث كانوا يحرصون على التوفيق بين شتى المصالح؛ حتى يتمكنوا من توصيل المياه لكل السكان…

ها هي الحضارة الإسلامية – وكما عوَّدتنا في شتَّى المجالات – لم تدع فرعًا من العلوم إلا وأحسنت الإبداع في سبيل تطويره.. وقد وقفنا في هذه الرحلة الموجزة على أن علم الهندسة لم يتخلَّف في هذا السياق عن غيره من العلوم؛ فقد تناوله عباقرة المسلمين تناولهم الفذ الذي يبرع – كما رأينا – في الجمع بين متطلبات الضرورة وجمال الأداء.. هذا الجمع الذي طبع الحضارة الإسلامية عبر مسيرتها الخالدة بطابعها الإنساني الجميل.

ولا بدَّ أن هذا السبق الحضاري الإسلامي في ميدان الهندسة لم ينشَأ من تلقاء نفسه.. بل دفعه إلى تلك الآفاق علماء أفذاذ.. نسأل الله أن يعيننا – في مقال قادم – على استشراف بعض معالم عظمتهم..