آفاق الهندسة الطبية


آفاق الهندسة الطبية

تعرّف الهندسة بأنها التطبيق العملي للعلوم النظرية في تصميم أجهزة وأشياء مفيدة للإنسان ، ونلاحظ في حياتنا المعاصرة أن الهندسة التقنية بشكل خاص قد تدخلت في أدق التفاصيل والحيثيّات، وتحاول إيجاد الحل التقنيّ الأسرع والأسهل والأجدى اقتصادياً لمشاكل الحياة وتعقيداتها والانتقال بالبشرية إلى مستوىً أعلى من الرفاهية والتقدم، وبات وجودها في مكان ما هو المعيار الحقيقي لتقدمه أو تراجعه، وبذلك سمّيت أقوى الدول في العالم بالدول الصناعية العظمى، وهي التي تمتلك فعلياً أحدث الوسائل لصناعة التقنية وترويجها.
والهندسة الطبية بدورها أصبحت جزءاً من الطيف الهندسي المتكامل، ولكن ما يميزها فعلياً أنها تربط جلّ العلوم الأساسية والتطبيقية والهندسية بعلوم الحياة والطب والصيدلة لخدمة صحة الإنسان وراحة من يقوم عليها، ويوضح الشكل 1 ارتباطات الهندسة الطبية بالعلوم الأخرى.

على الرغم من حداثة عهد هذا الاختصاص إلا أن كثيراً من الجامعات تعتبره أهم اختصاصاتها، وتموّل أبحاثه وتدفع باتجاه تقدمه نظراً لما يعد به من تحسّن جذري في علوم الطب التشخيصي والعلاجي، والذي يهدف دائماً للقضاء على المشاكل التي تتهدد حياة الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر. سيكون موضوعنا لهذا العدد معالجة الإشارة الحيوية، فأرجو لكم الفائدة.
معالجة الإشارة الطبية الحيوية Biomedical Signal Processing :
يعدّ هذا الاختصاص من أكثر الاختصاصات الهندسية التي تتعرض للتطوير والدراسة والبحث، فالإشارة الطبية الحيوية تحمل من المعلومات ما يمكن الاستفادة منها في معرفة سلوك النظام الحيوي الخاضع للدراسة بأدق تفاصيله، وقد تؤدي المعالجة المناسبة لهذه الإشارات إلى امتلاك معلومات فيزيولوجية وسريرية بالغة في الأهمية وتمثّل أساس العملية التشخيصية أو العلاجية. وتقدّم في المؤتمرات السنوية لمعهد IEEE أبحاث بمعدل 350 بحثاً سنوياً في هذا المجال، وهذا ما يدلنا على مدى أهميته، إذ يقود التطور في خوارزميات معالجة الإشارة الحيوية وطرائق التفسير الكمي لمعطيات النظم الفيزيولوجية إلى تطوير تجهيزات تشخيصية وعلاجية تفوق سابقاتها بشكل جذري.
الطرائق والمقاربات التقليدية وغير التقليدية :
من الواضح لنا أن كثيراً مما تم تطبيقه من خوارزميات ومقاربات في علوم الاتصالات ونظرية التحكم ومعالجة المعلومات قد تم تطبيقه أيضاً على الإشارات الحيوية كإشارة التخطيط الكهربائي للقلب ECG والعضلات EMG والدماغ EEG بشروط تجريبية محددة، ونذكر منها تحويل فورييه السريع FFT والمتقطع DTFT وغيرها، أما ما يمكننا اعتباره مقاربات تقليدية ساعدت في تطور طرق معالجة الإشارة الحيوية فهي مقاربات التحليل الإحصائي من الرتبة الثانية للنظم الخطية المبنيّة على نظرية وينر-كينشين، والتي تربط تابع الترابط الذاتي في مستوي الزمن وتحويل فورييه في مستوي التردد وما يتعلق بها من خوارزميات (كالترشيح الرقمي، والطي، والتحليل المتعدد العناصر: الأساسية PCA والمستقلة ICA) وهي خوارزميّات تحلّل الإشارة إلى مركباتها المستقلة، فعلى سبيل المثال، يفيد تحليل العناصر المستقلة ICA في مجال معالجة إشارة تخطيط الدماغ الكهربائي EEG في تحليل الإشارة المقتبسة من كل مجسّ إلى مركبة أساسية من منطقة الاقتباس، وهي مركبات يمكن أن تعتبر تداخلية من الباحات العصبية الأخرى، وهو ما يمكن أن يعتبر بحد ذاته ضجيجاً، ويمكنك أخي القارئ التعرف على المزيد من هذه التقنيات باستخدام برنامج EEGLAB ذي المصدر المفتوح والملحق ببرنامج MATLAB على الرابط .
اندماج النمذجة بالمعالجة :
يعد التكامل ما بين النمذجة الفيزيولوجية للنظم الحيوية (أي التعبير عن المنظومة الحيوية بنماذج رياضياتية) ومعالجة الإشارة الحيوية معلماً إبداعياً جديداً في دراسة النظم الحيوية، فبه يمكن الربط ما بين المتغيرات الفيزيولوجية المرضية بشكل مباشر مع الإشارات الحيوية المعالجة (وبالعكس)، وتكمن أهمية هذا البحث في تجاهل باحثي وعلماء معالجة الإشارة لعلم النمذجة (والعكس أيضاً)، وبالتالي يمكن بإعداد الطرائق وإيجاد حلقات الاتصال بين العلمين صياغة مناهج تدريسية تنشئ جيلاً من طلبة الهندسة القادرين على ربط العالمين ببعضهما، وتحليل نتائج الدراسة تحليلاً عميقاً متكامل الجوانب.
نموذج (م.م.م) – متعدد المتغيرات، متعدد الأعضاء، متعدد المستويات – MMM Paradigm : Multivariate Multiorgan Multiscale :
مقاربة أخرى لدمج مخرجات النماذج الفيزيولوجية بمداخل نظم معالجة الإشارة الحيوية ولكن من منظور أكثر اتساعاً وشمولاً من أي شيء سبق، فهي تربط المعلومات الخاصة بأكثر من متحول (مثل دراسة إشارتي تخطيط الدماغ والعضلات في نفس الوقت) مع تلك الخاصة بأكثر من عضو (مثل نشاط البنكرياس وعضلة القلب أيضاً) وعلى عدة مستويات (بدءاً بالجينات مروراً بالبروتينات فالجزيئات فالخلايا وانتهاءً بالعضو بكامله)، وذلك للحصول على تصوّر تشخيصي متكامل للحالة السريرية يسمح بتحليل الأسباب المرضية تبعاً لمصادرها من جميع المستويات .
يتطلب هذا النموذج مزيداً من الأبحاث على مختلف الأصعدة، ولكن هناك بوادر تبشر بتحققه بتواصل الجهود الأوروبية الرامية لإنجاز مشروع فيزيوم Physiome للنمذجة الفيزيولوجية، ومشروع الجينوم والبروتيوم ( النماذج الجينية والبروتينية لجسم الإنسان) والنموذج الافتراضي المتكامل للجسم البشري VPH، والتي ستوفر مجتمعةً للعلماء قواعد معطيات وتطبيقات شاملة تمكنهم من تحقيق الربط المرجو
أتوقف في هذا العدد عند هذه النقطة، وأتابع معكم في العدد القادم مع آخر تقنيات وأبحاث نظم الرعاية الصحية.