بناء منزلك
بناء منزلك

الأبنية البيئية والبيئة الصحية


الأبنية البيئية والبيئة الصحية

هل الأبنية البيئية أبنية صحية بالضرورة؟ هذا سؤال محير وتقتضي الإجابة عنه البحث عن إمكانية تحقق المقومات التي تجعل من الأبنية البيئية أماكن صحية للسكن، فما هي هذه المقومات الصحية للأبنية البيئية؟ إن العوامل التي تجعل من الأبنية البيئية أماكن صحية للسكن تعتمد على التهوية المناسبة والقدرة على الاستفادة من أشعة الشمس والطاقة الحرارية الجوفية، فضلا عن التحكم في درجة حرارة الهواء الداخلي ودرجة حرارة أسطح الجدران الداخلية ومصادر التدفئة المتوافرة ونمط معيشة قاطني البناء ولباسهم وفرشهم ومستودعات أغذيتهم وما إلى ذلك. كان الناس يسكنون في مغارة طبيعية أو اصطناعية، كالمغارة الواقعة على طريق السلط – وادي شعيب، أو كمغر مدينة البتراء، مثلا، التي حفرها الإنسان خلال فترة ازدهار حضارة العرب الأنباط. إذ كانت هذه المغر موائل مريحة حراريا وصحيا إلى حد ما، لأنها تنتفع من مصادر الطاقة المتجددة، كالفتحات الواقعة باتجاه الشرق والجنوب التي تسمح لأشعة الشمس بالدخول، أو بفعل تلاصق جدران الغرف مع بعضها بعضا ومع الجبال. ودرجة حرارة كتلة الجبال مستقرة تقريبا صيفا شتاء، وهي التي جعلت من بيوتهم أماكن مريحة صيفا شتاء نتيجة اقتصار الاتصال مع الخارج بواجهة واحدة فقط من واجهات الأبنية. أما بيوت أجدادنا القديمة المقامة، من العقود والجدران الحجرية المحشوة بالطين والقش والمقصورة من الداخل والخارج بالطين، فكانت باردة في فصل الشتاء أيضا، فلا ينبغي الظن أنها كانت دافئة، ولكنهم تجاوزوا هذه الإشكالية ببعض إجراءات نذكر منها:- وجود مصدر للطاقة، كالموقد في “”النقرة”” الواقعة وسط البيت في مكان مرتفع قليلا. وأيضا وجود حظيرة حيوانات تابعة للبناء متصلة به، بل وأحيانا هي جزء منه، والتي كانت تساهم في تدفئة المكان بفعل الابتعاث الحراري من أجسادها وأيضا بفعل الغازات التي تطلقها، وبخاصة غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان. وغاز الميثان تحديدا هو غاز يعزى له اليوم نسبة عالية من الاحتباس الحراري نتيجة قدرته العالية على امتصاص الموجة الحرارية للإشعاع الضوئي. إذ إن غاز الميثان يتجاوز في درجة قابليته لامتصاص الموجات الحرارية غاز ثاني أكسيد الكربون بنحو عشرين إلى ثلاثين مرة. كذلك فإن هذا الدفء الحراري الذي كانت تنتجه الحيوانات كان يوفر الدفء لمنطقة الجلوس وهي “”المضافة”” التي تتوسطها “”النقرة””، حيث النار والجمر المتقد والضيوف. والموقد كان مستمر الاشتعال ليظل حارا جدا وليخفف من انبعاث الدخان الكثيف وليوفر الدفء باستمرار، فضلا عن توفيره الطاقة اللازمة للطهو وغلي الماء وعمل القهوة وما إلى ذلك. وظاهرة استمرارية النار هي التي كانت ترفع من درجة حرارة أسطح الجدران والسقوف الداخلية بحيث تجعل من المكان مناسبا للسكن في فصل الشتاء. إذن، الهواء الدافئ والجدران الدافئة السميكة والنار والاشعاعات الحرارية للناس والحيوانات، فضلا عن الغازات التي كان يطلقها سكان المضافة والحيوانات والضيوف؛ جميع هذه الظواهر كانت تساهم في جعل البناء مريحا حراريا. فهل هذا متوافر اليوم إذا قمنا بتقليد الأبنية القديمة؟ أما منطقة النوم فكانت أعلى من المناطق الأخرى، على مصطبة أو سدة، بحيث يرتفع الهواء الدافئ إلى أعلى فيعمل على تدفئة مناطق النوم تلقائيا، فلم تكن بحاجة إلى تدفئة، إذ كان الهواء الدافئ في المناطق الأدنى يرتفع نتيجة تمدده وانخفاض وزنه لينتشر في مناطق النوم خلال فترة السمر بطولها، فما أن يحين وقت النوم حتى تكون تلك المناطق قد أصبحت دافئة نسبيا. وملابس أجدادنا كانت أكثر ملائمة للبيئة، فالجواعد والفراء والأغطية السمكية والسجاد والحصائر ومخازن المواد التموينية كانت كلها مناسبة لتوفير الدفء مساء وتوفير الراحة الصحية والنفسية المطلوبة بفعل النوم في مكان مشترك والتشارك في كل شيء بما في ذلك العمل. ولا شك في أن تعدد الغرف اليوم وانفصال الأخوة عن بعضهم البعض واستفرادهم بحاسوبهم الخاص وغرفتهم الخاصة وهاتفهم الخاص وأدواتهم المطبخية الخاصة وسياراتهم الخاصة، كلها عوامل ساعدت على الاضطراب النفسي المعاصر. وعليه، فإن القول إنه بإمكاننا بناء بيوت بيئية صحية كما كانت الحال عليه في الماضي هو ضرب من الخيال، لأن ممارساتنا قد اختلفت اليوم اختلافا بينا، وغدا ضروريا دمج تصاميم الأبنية التقليدية بالمعارف الحديثة والتكنولوجيا المتطورة ومواد البناء العازلة لجعلها أماكن مريحة حراريا وصحية للسكن فيها. هناك حاجة ماسة للاطلاع على الدراسات الصحية الحديثة أيضا، فقد اتضح أن انخفاض درجة حرارة الفناءات الداخلية عن 18 درجة سلسيوسية تؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بأمراض القلب وتصلب الشرايين؛ وهذا ما لم يكن متحققا في أغلب الأبنية القديمة، باستثناء فناءات محدودة ولفترة قصيرة نسبيا، الأمر الذي ربما ساهم في جعل معدل عمر الإنسان أقل مما هو عليه اليوم، حيث تجاوز اليوم معدل عمر الإنسان في الأردن، مثلا، السبعين عاما. وربما كان تلاصق الأبنية التراثية وصغر حجمها وتخزين المواد الغذائية فيها عوامل ساهمت في زيادة تخزين الطاقة الحرارية فيها وجعلها مريحة حراريا في أثناء الليل. إذ كانت مستودعات الحبوب والطحين وغيرها تقوم مقام الكتلة الحرارية التي تحافظ على استقرار درجة الحرارة. خلاصة القول إن العوامل التي ساهمت في جعل الأبنية التراثية مريحة للسكن هي عوامل متعددة ومتداخلة ينبغي أخذها بعين الاعتبار في علاقاتها المتشعبة قبل اتخاذ أي قرار بشأن نسخها وإعادتها إلى الحياة رغما عن أنفها وتحميلها من الأعباء ما لا تحتمل.. د. أيوب أبو دية