العمارة الإسلامية
العمارة الإسلامية

الجمال في العمارة الإسلامية


الحلقة الأولى

يمكن أن يكون الإنسان هو المخلوق الوحيد الأكثر تحسسا للشيء الجميل، ويمكنه أن يكون الأقل تسبيحا والأكثر جحودا لمبدع الجمال سبحانه. واتفق البشر على حب الجمال والبحث عنه وسطوته على مشاعرهم وأثره على نفوسهم، ولكنَهم اختلفوا على تعريفه أو تفسيره أو إيجاد منهجيةٍ في تمثيله.

ويذهب بعضُ اللغويين أن كلمة”الجمال” يمكن أن تكون واردة من كلمة”الجمل” الذي يَقرن الجمال بالمنفعة، ويجوز أن تكون التعابير الوارد في الذكر الحكيم مثل (سراحا جميلا) أو (صفحا جميلا) أو (هجرا جميلا) ما يرمز للتسامح وروح الإيثار، أما المفهوم المتكرر مرارا فهو (صبرا جميلا) الأكثر ملموسية في رمزيته، و يحمل في طياته دلالات الصبر على الشقاء والمصاعب والشظف، ويرد كذلك مصطلح (السنع) في العربية، بما يعني الجمال, والسنيع كما يقول لسان العرب هو الجميل، ونجد نفس الكلمة ترد في لغات أهل الشمال.

العمارة الإسلامية
العمارة الإسلامية

 

أما “الجمال” الذي نستعمُله للدلالة الفنية ولاسيما في العمارة، فهو يقابل كلمة (أسطاطيقا Esthetics) اليونانية الأصل والتي تعني علم الإحساس والإدراك والمعرفة الحسية. وهو علم قوانين تطور الفن، ويتبوأ موقعا بارزا في الفلسفة وفي علوم الفن ، و يدرس الشكل الجمالي للاستيعاب الفكري عن الواقع الذي يطفو على سطح الحياة اليومية وكذلك الفن ، الذي يُعتبر أعلى شكل في عملية الاستيعاب الجمالي عن الواقع .

ولعلم الجمال جانبان نظري وعملي، الأول يبحث في تطور التطبيق الفني ووضعه في قوانينه المعينة، وهو أساسي في تجسيد الجمال التطبيقي في الثقافة السياسية والنقد الفني. وفي علم النفس نجد الجمال يتلاقى مع المشاعر الرقيقة والأفكار السامية إلى جانب المشاعر الأخلاقية والثقافية.

وأفلاطون من أوائل من بقت تدويناته عن الجمال، و صرح بأن (الجمال والخير والحق حقيقة واحدة فليس بجميل على ما يقوم على الباطل ويأتي السوء منه) وهو الأقرب للمفهوم الإسلامي. ورب معترضٍ على ذلك وحجتهُ بان الخير نافع ولكن الجمال لا يشترط به المنفعة وان الحق يقوم بالبرهان ولا حاجة للجمال بالبرهان .

ويأتي أرسطو ليفرق بين العمل وبين الشكل، فالعمل لديه هو الخير بعينه ولكن الشكل هو الذي يضطلع بالجمال والشيء الجميل يتنزه عن الغرض وهذا لا يعني لديه بأنه يخلو من الفائدة ويصف في ذلك الموسيقى بأنها مرادف للطهارة والسرور والتهذيب.

وهكذا ورد لدى أرسطو الجمال ما أرتبط بالنافع، فهو بالنتيجة خلق مثالي، وأخضع توماس الأقويني Aquin الجمال لمفهوم ديني حيث أعتبر أن أعلى درجات الجمال موجودة في الغله التي تعبر عن أصل الجمال في الفن والطبيعة، ويتجسد الجمال من خلال الكمال والتناسب الصحيح ثم الوضوح.

وقد وجد تفسير الظاهرة الجمالية الاهتمام من الفلاسفة المحدثين من أساطين الفكر والحكمة ومنهم الألمان (هيغل) (غوته) و(كانت) والروسي (تشيرنيفسكي) حتى الأيرلندي (برنارد شو) ممن أسهب في غور كنه الجمال وتفسيره ولاسيما الجمال في العمارة، ولكنهم لم يصلوا إلى أدق التعاريف لكونه ببساطة مجالاً خيالياً رحباً تكتنفه قيم ٌمنها مطلق ومنها نسبي . لقد ظهر علم الجمال الحديث في ألمانيا في القرن الثامن عشر(1720-1785) أو ما يسمونه اصطلاحا “عصر التنوير”.

وانبرى لأول مرة (بونكارتم) يشق طريَقه رائدا حتى جاء دورُ (كانت) و(هيغل)، وقد عالج هذا الجيل من الفلاسفة النواحي العاطفية والروحية و الإنسانية له.

وفيما ذهب إليه الأقل شانا منهم بان الحكم الأخير في ذلك هو الفرد فيما يَقبلهُ أو يَرفضُه تبعا لما يمليه عليه خيالهُ وتمشيا مع سجيته وفطرته. ومن العلماء من شرح الجمال “بالراحة البيولوجية” أي شعور الإنسان بالارتياح له ومنهم من قال بان الجمال محسوس وليس ملموس ويرجع الإحساس هذا إلى الصورة وليس للمادة وان تقدير الجمال أمرٌ كيفي لاكمي وهو بذلك لا يقاس بالأعداد أو المقادير، حيث يعتبر (كانت) : ( أن الجمال هو ذلك الذي يكون ممتعا بالضرورة، وهذه المتعة تنبعث من نفوسنا ونحن نُدرك أن هذا الجمال مقطوع الصلة بأية فائدة مهما كانت). وحدد نوعين من الجمال أحدهما حر والأخر تابع، فيكون حرا إذا أنعدم الغرض وتابعا إذا أشار إلى غرض ما.
وجاء بعد كانت (شلر Schiller) ليقول: ( أن العمل الفني لون من ألوان النشاط التلقائي الخالي من الغرض). أما هيغل فقد استفاد من كل الشروحات لمن سبقه بهذا الصدد، وقدم نظرية شاملة لتاريخ الفن كانت بواكير المدرسة الواقعية التي أثمرت تباعا في الفن والعمارة (ولاسيما في شروحات لودوك الفرنسي) بعد انتقادها للرومانسية في فنون وعمارة القرون الوسطى والنهضة.
واعتبر هيغل علمَ الجمال جزءاٌ من التطور التاريخي الشامل عن العالم مبتدئا من الطبيعة ومنتهيا “بالفكر المطلق”، وعلم الجمال هو إدراك ٌ حسي ويحتل أدنى درجةٍ من ظهور (الفكر المطلق). وقد بنى هيغل نظريَته على (صراع الأضداد) أو الديالكتيك المجسد في ثلاث حالات هي (الموضوع these النقيض antithese و التركيب synthese) ، الذي بنت الماركسية عليه فكرَها الجدلي والجمالي.

وفي نفس السياق نجد من الشروح لهذا العلم لدى العرب المحدثين حيث يصف (محمود الشكرجي) ذلك المفهوم في كتابه (الهندسة والمهندسين) قائلا: (إن الإدراك الحسي هو صفة جوهرية في الجمال والصفة الثانية هي النقد الواعي المشتمل على الأحكام القيمية الغريزية المباشرة، أي يشتمل على حالتي اللذة والألم. والمجال الذي يشترك فيه كلٌ من النقد الحسي والنقد الواعي هو المجال الذي توجد فيه الإدراكات الحسية النقدية أو مجال الإدراك النقدي التشوقي وبذلك يصبح علم الجمال هو أدراك للقيم).