بيوت وتصاميم.. فلسفة العمارة
وقد تميزت البيوت التي بناها حسن فتحي وظلَّ يدعو للأخذ بها والتي استوحاها من بيوت النوبة بأنها متوافقة توافقًا كليًّا مع البيئة فهي -غير رخص تكلفة خاماتها- تحقق تهيئة مناخية رخيصة للمنزل ليس بحكم خاماتها المتوافقة مع البيئة فقط، بل بحكم توافق تصميماتها، فالبيت من هذه البيوت يستمد تهويته وإضاءته من فناء داخلي تنفتح عليه نوافذ البيت من الداخل، وهذا يقي أهل البيت من الأتربة والتيارات الهوائية غير المستحبة، فضلاً عن ذلك فإن هذا الفناء يحقق خصوصية البيت وحرمته التي تتوافق مع القيم الدينية والأخلاقية لساكنيه، وهاتان الوظيفتان ما كانت تحققهما تصميمات البيوت الحديثة التي يضعها المعماريون التقليديون من كونها تستمد فلسفة تصميماتها من العمارة الأوروبية التي تفضل -تبعًا لتوافقها مع بيئتها- الانفتاح على الخارج.
وهذه بعض من كل المميزات التي تتميز بها البيوت التي دعا إليها حسن فتحي، والتي أفاض في وصف ميزاتها الكثيرة البنائية والوظيفية والجمالية في كتابة “عمارة الفقراء” على أن اقتصاديات البناء في بيوت حسن فتحي لم تكن تقف عند ذلك، بل إن حسن فتحي دعا لنظام تعاوني في بناء القرى، وهو تطوير لتقليد كان يسود بين فلاحين القرى المصرية؛ إذ كان كل فلاح يقوم ببناء بيته يلقى دعمًا ومؤازرة من الجماعة، وكان حسن فتحي يقول دائمًا: إن فردًا واحدًا لا يستطيع بناء بيت بمفرده، ولكن عشرة أفراد قادرون على بناء عشرة بيوت.
قرنة الأقصر.. إثبات النظرية
وفي النصف الثاني من عقد الأربعينيات بنى حسن فتحي قرية القرنة بالأقصر تبعًا لطريقته في بناء بيوت الفلاحين، وأثبت على نطاق واسع وواقعي أن بناء القرى بالطوب اللبن تقل تكاليفه عن البناء بأي مادة صناعية أخرى، فضلا عن تناسب هذا البناء مع البيئة المحيطة، وإن كان الفلاحون لم يسكنوا في هذه القرية فهذا راجع لأنهم أرادوا أن يبقوا في قريتهم القديمة، حيث تقع فوق المقابر الأثرية التي كان يسرقون محتوياتها وتحقق لهم مكاسب كبيرة دون أي جهد أو عناء لا لسوء في مباني حسن فتحي، ولكنه الحلف الذي تكون من المهندسين والمقاولين الانتهازيين وكل من له مصلحة في تسيد طريقة البناء بالإسمنت، وفي البيئة المصرية راح يروج أن إعراض الفلاحين عن السكن في القرية الجديدة يرجع لسوء المباني التي بناها حسن فتحي.
ولم تكن الحكومات البيروقراطية فيما بعد يوليو 52 أفضل من الحكومات الملكية في موقفها من مشروعات حسن فتحي، فحين تقدم حسن فتحي بمشروع لبناء قرى للنوبيين المهجرين بعد غرق قراهم من جراء بناء السد العالي استبعدت مشروعاته رغم كل ما فيها من مميزات وبنت لهم الدولة بيوتًا إسمنتية شائهة وضيقة أشبه بعنابر السجون وكأنها تريد أن تعتقلهم فيها لا أن تقوم بإسكانهم، وبدلا من أن يبني حسن فتحي بيوت النوبيين استدعي لبناء استراحة للرئيس السادات في أسوان على طريقة المنازل النوبية؟! كما أوقف البناء في قرية باريس التي كانت مشروعًا من ضمن مشاريع حسن فتحي المجهضة في مصر بحجة عدم وجود ميزانية كافية لاستمرار البناء.
وفي أواخر حياته لم يكن أمام حسن فتحي سوى أن يحاول أن يودع علمه لدى بعض من تلاميذه لعلهم يكونون أوفر حظًا في تنفيذ أفكاره فحاول أن يؤسس معهدًا ليقوم بتدريس نظريته العمارة وتطبيقاتها التي أطلق عليها “تكنولوجيا البناء المتوافقة مع البيئة”، خصوصًا أن أفكار ونظريات حسن فتحي كانت تعد من المحرمات في أقسام العمارة بالجامعات المصرية، ولكن حتى هذا المعهد أجهض رغم النضال المستميت الذي بذله حسن فتحي في إنشائه.
لا يزال المنهج حاضرًا
ولكن قد يتساءل المرء: هل يمكن الاستفادة الآن من أفكار ونظريات حسن فتحي في العمارة؟ وخاصة أن خامة الطين التي كان يستند إليها في عمارته لم تعد موجودة في القرى المصرية، بل إن القرى المصرية الحالية امتلأت كلها عن آخرها ببيوت الإسمنت والخرسانة؟! وما نريد أن نؤكده أن حسن فتحي لم يرتبط بخامة الطين في مبانيه إلا في المباني التي كان يبنيها في بيئات متوفرة فيها هذه الخامة. وحينما كان يبني في الصحراء كان يبحث عن مواد بيئية توجد في البيئة الصحراوية، وهو ما حققه بالفعل حين كان يبني بالحجر في الصحراء، وقد دعا لاستخدام الطفلة التي توجد في الصحراء كخامة بيئية رخيصة وأفضل من أي خامة صناعية أو مستجلبة.
أما كون القرى المصرية التقليدية لم تعد فيها أي إمكانية لتنفيذ مشروعات حسن فتحي، فيمكن الاستفادة من أفكار ونظريات حسن فتحي في المجتمعات العمرانية الجديدة التي ستقام في الصحراء مثل قرى ومدن توشكي وغيرها وهي من الكثرة بحيث يجب التفكير في طريقة اقتصادية لبنائها؛ لأنها صارت الامتداد الوحيد للنمو السكاني والعمراني في مصر.
عندما ابتعث الرائد المعماري “حسن فتحي” نمط بيوت النوبة المبنية بالطين والمسقفة بالقبب والأقبية في بداية الأربعينيات لم يكن يخترع شيئًا من عدم، ولم يكن يبتعثه أيضًا كفلكلور يبغي منه أن يحوز إعجاب الأثرياء والأجانب لما يجدون فيه من غرابة وطرافة، إنما كان هذا نابعًا من مسئوليته كمهندس معماري يقوم بدور رائد وهو إحياء التراث المعماري المحلي للعمارة الشعبية المصرية؛ إذ وجد فيه الحل المناسب إن لم يكن الأمثل لمشكلة شديدة الإلحاح وهي توفير بيت لكل فلاح فقير في الريف المصري، بتكلفة اقتصادية منخفضة تناسب دخل هذا الفلاح، على ألا تنتقص هذه التكلفة المنخفضة من حق هذا الفلاح في أن يكون له بيت متين وواسع ومريح وجميل.
ومن هنا عشق المعماري العالمي حسن فتحي النمط النوبي من دقة وروعة البناء النوبي وجعله مبهوراً بسر الفلسفة الخاصة لدي الإنسان النوبي وتقديره لمواصفات عالمية لم تكن معروفة في ذلك الزمان وحينهاعرف أن النوبيين لديهم قدرة فائقة في البناء والجمال والرسم بفطرة كاملة توحي لكل الناظرين اليها أنها من أعمال مهندسين كبار .
فالفلاح المصري الفقير إذا كان يستطيع أن يبني جدران بيته من الطين، فهو لم يكن لديه في حدود خبرته وإمكاناته أن يتغلب على مشكلة تسقيف بيته، فالأخشاب التي يسقف أغنياء القرية بها بيوتهم لم تكن متوافرة في البيئة وتكلفتها ليست باستطاعة الفلاح، ومن ثَم فقد كان الفلاح إما أن يسقف بيته بحزم “البوص” (الغاب)، وهو سقف هش تنشأ عنه مشكلات كثيرة ولا يفي بالغرض، أو يتركه هكذا عاريًا، فطريقة التسقيف بنفس الخامة التي بنيت بها حوائط البيوت “الطين” على هيئة قبب كان الفلاح قد انقطع عنها ولا يعرف مهارات بنائها، وقد ظلَّت هذه الطريقة في النوبة وإن كانت متوارية عن باقي قرى الريف المصري، ولا يعرف مهارات بنائها إلا البنَّاءون النوبيون الذين لم يكن يطلبهم أحد أو يوجههم؛ لتعميم طريقتهم الرخيصة والمتينة والجميلة في تسقيف البيوت في جميع القرى المصرية.